السحر المضاد او الدفاعي
السحر، حسب مجمع اللغة العربية هو «كل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع»، أما في لسان العرب، فإن «أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته».
ويفرد عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً للحديث عن «علوم السحر والطلسمات التي يعرفها بأنها «علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر، إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية، والأول هو السحر والثاني هو الطلسمات».
والملاحظ أن مصطلح الطلسم، ذا الأصل اليوناني، ويعني «كل ما هو غامض ومبهم من الألغاز والأحاجي»، قد فقد في اللغة العربية المعاصرة أهميته، بعد أن كان رائجا على عهد ابن خلدون وذلك لفائدة مصطلح السحر الذي اتسع استعماله، بالمقابل، ليستأثر بكل المعاني المرتبطة بالممارسات الخفية, وبخلاف لغة الضاد، تعرف اللغات اللاتينية، ومنها الفرنسية، غنى ملحوظا من حيث المصطلحات المرتبطة بالموضوع نذكر منها مثلا: La démonologie le stanisme, la sorcellerie, la magie عــلى أن المصطلحين الأول والثاني يعتبران الأكثر تداولا في لغة ديكارت.
وحسب المعجم الفرنسي لعلم الاجتماع، فإن La magie، هي عملية تستهدف العمل ضد قوانين الطبيعة بواسطة وسائل خفية تفترض وجود قوى خارقة وحالة من العالم», بينما يعرف المعجم نفسه La sorcellerie بأنها هي «القدرة على إيذاء الآخرين من خلال عمل روحاني».
ومن كل هذه التجديدات الاصطلاحية، نستطيع القول إن السحر هو ممارسة تستخدم عناصر خفية أو مادية بهدف التأثير في الواقع، من أجل بلوغ غرض محدد وتحدد القوى المؤثرة وكذا الغاية (أو الغايات) المرجوة من العملية السحرية، نوع الممارسة (شريرة أم نافعة), ويقودنا هذا إلى الحديث عن التصنيفات المتخصصة لأنواع السحر.
أنواع السحر
يقسم موشون السحر في المغرب، حسب ملاحظاته، إلى قسمين: سحر دفاعي وسحر عدواني: ويرتبط كل قسم منهما بطبيعة الأغراض المرجوة، وبموقع كوكب القمر الذي يلعب دورا حاسما في إنجاح أو إفشال العملية السحرية.
فالسحر الدفاعي لا ينجح إلا خلال النصف الثاني من الشهر القمري، ويلجأ إليه كل المصابين بالعين الشريرة والملاحقين بلعنة سوء الحظ، كالنساء اللواتي يجهضن (دون رغبة)، الفتيات اللواتي لم يتمكن من الزواج، والعشاق المهجورون، الرجال الذين لا تنجح أعمالهم، إلخ.
أما السحر العدواني، فيختص بأغراض الحب والهجر والمصائب والموت، التي لا تنجح إلا خلال النصف الثاني من الشهر القمري، لأنه- يقول موشون- في أعمال السحر التي تستهدف الانتقام والحقد، يقال: «كيف ما غاب القمر، يغيب فلان يغيب» أي (مثلما غاب القمر، أريد لفلان أن يغيب).
والحقيقة أن التصنيفات الثنائية للسحر طغت على غيرها من التصنيفات الأخرى الكثيرة، التي اجتهد في وضعها العلماء، وذلك على الرغم من صعوبة تصنيف كل الممارسات السحرية الموجودة لدى شعوب الأرض، لصعوبة حصرها جميعا, ومن أشهر تلك التصنيفات الثنائية، نذكر: السحر الأبيض والسحر الأسود- سحر العامة وسحر النخبة- السحر الإيجابي والسحر السلبي- السحر التشاكلي والسحر الاتصالي، إلخ, وسنكتفي هنا باستعراض خاصيات أهم صنفين، سيتكرر ذكرهما كثيرا في المقالات الموالية، وهما السحر الأبيض والسحر الأسود ثم السحر التشاكلي والسحر الاتصالي.
يعتبر تصنيف السحر إلى أبيض وأسود أشهر التصنيفات الثنائية على الإطلاق, فالسحر الأبيض يلبي أغراضا تعود على الفرد والمجتمع بالنفع، دون أن تلحق الأذى بأي شخص أو تتعارض مع أعراف وقوانين المجتمع, «ويجمع العلماء على أن أهم نوعين من السحر الابيض، في كل أنحاء العالم هما السحر الخاص بالتنبؤ بالمستقبل أو التنبؤ بالغيب، والسحر الخاص بالعلاج أو التداوي والتطبيب».
أما السحر الأسود: فهو لكي يحقق مصلحة شخصية، يلحق الأذى بالآخرين، ومن أهم أشكاله سحر الانتقام، وهذا النوع هو الذي أطلق عليه موشون السحر العدواني.
ويعتبر السحر التشاكلي والسحر الاتصالي فرعين من السحر التعاطفي القائم على قانون التعاطف، «وهما يفترضان إمكانية تأثير الأشياء في بعضها عن طريق نوع من التعاطف الخفي» حسب الباحثة المصرية الدكتورة سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع في كلية الآداب- جامعة عين شمس.
فبالنسبة للسحر التشاكلي (أو سحر المحاكاة)، يقوم على مبدأ التشابه أي «الشبيه ينتج الشبيه», ومن أبرز الأمثلة عنه، ما يقوم به كثير من الناس من محاولة «الحاق الأذى أو الدمار بأعدائهم عن طريق إيذاء صورهم أو تدميرها».
بينما السحر الاتصالي «يقوم على فكرة أن الأشياء المتصلة- حتى بعد أن ينفصل تماما أحدها عن الآخر- تظل في علاقة تعاطف، بحيث ان ما يطرأ على أحدها يؤثر على الآخر بالضرورة تأثيرا مباشرا», وتقدم سامية الساعاتي مثالا عن هذا النوع من السحر، وهو تلك الخرافة الشائعة في العالم كله، والتي تجعل الإنسان يحاذر من وقوع أجزاء من جسمه كالشعر والأظافر والمشيمة وحبل السرة وغيرها، في يد إنسان آخر قد يستغلها في أعمال سحرية ضده، «بحيث تجعله خاضعا لارادته مهما بعدت المسافة بينهما».
حقيقة السحر
في تاريخ الفكر الإسلامي، تميز المعتزلة بإنكارهم لوجود السحر، بل وذهبوا إلى حد تكفير كل من يعتقد في وجوده, ويعتبر موقفهم الرافض هذا مناقضا لما نص عليه القرآن الكريم من وجود للسحر، ولما نص عليه الشرع الإسلامي من وجوب قتل المتعاطين له، لما فيه من شرك بالله، ومضار للمجتمع.
ويؤكد العلامة ابن خلدون، من جهته، ان «وجود السحر لا مرية (لا شك) فيه بين العقلاء», لكنه يميز في ذلك بين الساحر وصاحب المعجزة, ويضع الفرق بينهما «فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين، فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل فيه أسباب الشر، وكأنهما على طرفي النقيض».
ومن أغرب الطرائف التي يحفل بها سجل خوارق السحرة، ما ذكره العلامة المغاربي عن صنف منهم، كان معروفا في عهده بالمغرب يسمون «البعاجين» وكانوا يمارسون الابتزاز على الفلاحين تحت تهديد السحر.
ويؤكد ابن خلدون أنه شاهد من هؤلاء «المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج، فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض (,,,) يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم مشترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام,,,», ويشدد العلامة في التأكيد على أنه لقي «منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك، وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك الروحانيات والجن والكواكب,,,», ونستغرب أن يصدر مثل هذا التأكيد عن مفكر كان متقدما فكريا على عصره بقرون، إذ كيف يحصل «البعج» وتتدلى أمعاء الغنم لمجرد إشارة من يد ساحر؟
وعكس ابن خلدون، يبدو الحسن الوزان (ليون الإفريقي) أكثر ادراكا لحقائق بعض السحرة، خصوصا منهم أولئك الذين يمارسون صرع الجن, فبعد أن يعرض في (وصف افريقيا) للكثير من ممارسات السحرة التي كانت منتشرة على نطاق واسع في مغرب العصور الوسطى، يستنتج الرحالة المغربي أن «السحرة يعتبرون أنفسهم قادرين تماما على انقاذ من اعتراهم مس من الشيطان، لسبب واحد هو أنهم يوفقون أحيانا في ذلك, واذا لم يوفقوا زعموا أن الشيطان كافر أو أن الأمر يتعلق بروح سماوية,,,», فنجاح مهمة الساحر، في فهم ليون الافريقي، لا يعدو أن يكون محض صدفة، واذا لم يتحقق زعمه، لجأ الساحر إلى مبررات تتخفى خلف الدين تجنبا للإحراج.
أما العلوم الإنسانية المعاصرة، فإنها تربط السحر بالأساطير وبالماضي السحيق وعهود الآلهة والأبطال، وتربطه كذلك بجذور الانسان الأولى وبدايات الثقافة القبلية.
ولذلك انصبت اهتمامات علماء الاجتماع والانثربولوجيا وعلماء النفس منذ القرن التاسع عشر على دراسة نشوء وتطور المعتقدات السحرية في المجتمعات البدائية واهتم بعض الأوروبيين منهم بمجتمعات الشمال الافريقي، إما خدمة للحملات الاستعمارية أو بدافع القناعة العلمية, ومن أبرزهم نذكر عالم الاجتماع الفنلندي وسترمارك، والفرنسيين: مارسيل موس، إدموند دوتيه، ج هربر، لاوست، وأيضا الطبيب إميل موشون الذي شكل اغتياله في مراكش في بداية القرن العشرين أحد المبررات الفرنسية المعلنة لاستعمار المغرب, وهناك أيضا إميل درمنغن، وغيرهم, إن البحث العلمي في المغرب مدين لهؤلاء، رغم اختلاف منطلقاتهم ومقارباتهم بالكثير.
بالنسبة لعالمي الاجتماعي والانثربولوجيا أوبير وموس، يشكل السحر «مجالا للرغبة» فهو قبل كل شيء، وفي الأصل كان رد فعل جماعي أنتجه خيال العشيرة, فالرغبات التي حددت نشوء السحر كانت قبل كل شيء رغبات جماعية: رغبة في الحصول على طرائد أو على المطر، أو على حرارة الشمس، إلخ.
ولا يخفي إدموند دوتيه، وهو من أبرز دارسي السحر في المجتمعات المغاربية، تأثره بأفكار أوبير وموس، فيخلص من دراسته العميقة لعلاقة السحر بالدين في شمال افريقيا، إلى ان «السحر هو مجرد توضيع objectivation للرغبة (المراد تحقيقها)، يقترن بالرغبة في إثارة هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك».
وسنرى لاحقا في سياق المقالات الموالية، ان أغلب وصفات السحر في المغرب تقوم على طقوس، هي في الحقيقة تقليد للغايات المراد بلوغها,,, كأن يذهب الشخص الذي ينم فيه الآخرون إلى «العيساوي» ويطلب منه أن يجز أمامه رأس أفعى حية, وفي الوقت الذي يتساقط الرأس، يصرخ: «كيف ما تقطع رأس الأفعى، تنقطع رؤوس العديان» (أي: مثلما سقطت رأس الأفعى، لتقطع رؤوس الأعداء) ثم يحمل رأس الأفعى إلى منزله، ليضع في مكان كل عين منه خرزة، وفي فمها الفلفل الأحمر الحار (السودانية)، وهو يقول: «كنسد عيني العديان» و«كنسد فم العديان» (اغلق عيون الأعداء) و(اغلق افواه الأعداء) إلى آخر الوصفة, إن الأفعى في هذا المثال، هي نموذج يشخص الشر وقطع رأسها ينقل الرغبة في قطع رؤوس الأعداء النمامين (الفعلية أو الرمزية) ويشخصها, وكذلك الأمر بالنسبة لإغلاق عينيها وفمها.
وإذا نحن تأملنا أشكال الممارسات السحرية التي تنتشر في مجتمعنا، وجدنا أنها تنقسم بشكل عام، إلى نوعين رئىسيين هما: السحر العلاجي وقراءة الطالع, وتدخل ضمن النوع الأول أغلب الممارسات السحرية، لاعتقاد العامة في أن كل ما يلحق بها من شر، سواء كان مرضا عضويا (عقم، حمى,,,) أو نفسيا (جنون، صرع، إلخ,,,) كلها من أعمال السحر العدواني، وليست وليدة ظروف ذاتية أو اجتماعية معنوية عادية.
وفي تفسير ذلك، يرى (وليام هاولز) أن الأهمية التي يحتلها السحر العلاجي وقراءة الطالع تعود إلى أن المرض والشك هما دائما مصدر أشد وأقسى أسباب القلق الشخصي والاجتماعي», وهذا القلق هو الذي يفسر الكثرة العددية لـ «الشوافات» (العرافات قارئات الغيب) والفقهاء المعالجين، من حولنا، في المغرب.
لكن، إذا كانت «التمثلات السحرية, بتعبير عالم الاجتماع والانثربولوجيا الفرنسي مارسيل موس تشكل مجالات لتحقيق الرغبات، ظهرت تحت ضغط حاجة مجموعة من الناس اليها» فكيف تستطيع طقوس ممسرحة، يكررها مئات آلاف من الأشخاص، في شروط معينة، ان «تحقق» الغايات المرجوة منها؟هنا تتعدد المقاربات وتتشعب إلى نقاشات بلا نهاية، لكن يمكن اختصار الجواب هنا في تفسير ميرسيا إلياد: «إن التكرار البسيط، بمساعدة الخيال النشيط، لبعض الرموز الدينية (,,,) يترجم بتحسن نفساني، قد يفضي في نهاية المطاف إلى العلاج».
شروط الممارسة السحرية
تتهيكل العملية السحرية، حسب ليفي ستراوس، حول اعتقاد ثلاثي:
1- الاعتقاد في سند ايديولوجي للمجموعة التي ينتمي اليها الفاعل.
2- اعتقاد الفاعل في نجاعة الطقس الممارس.
3- اعتماد الساحر في نجاعة تقنيات.
(بالنسبة للسند الايديولوجي، قد يكون ضريح ولي، أو يكون هو الساحر نفسه, فالسحر لا يعتبر سحرا إلا بتوافر شرط الاعتقاد فيه من قبل الممارس، والاعتقاد في نجاعة الطقوس التي يليها، أي حين يعتقد في نجاعة وصدق الممارسة السحرية كل من الساحر والزبون.
وهذا الاعتقاد هو الذي يسميه المغاربة «النية» أي الاعتقاد الصادق في أن حركة ما، أو كلمة ما، أو مادة معدنية، أو نباتية أو حيوانية، إذا استعملت بطريقة ما، تنتج تأثيرا سحريا معينا.
إن «النية» هي تلك الارادة المضمرة أو المعبر عنها في كسب مصلحة أو تفادي شر, ويتم التعبير عنها من خلال ممارسة طقس سحري، من دون أن يطرح لا الساحر ولا زبونه السؤال المعتقد والمحرج: كيف ولماذا نفعل هذا لكي يحصل كذا؟ وهي بهذا المعنى شرط أساسي لنجاح الممارسة السحرية في تحقيق الهدف، حيث إن الممارس إذا لم يقم بالطقس السحري «من نيته» فإن ذلك يؤدي إلى بطلان مفعول العملية.
ويلخص ذلك، القول الدارج الذي يكرره السحرة، مثل لازمة «النية بالنية والحاجة مقضية» أي أن النية المتبادلة بين الساحر والزبون شرط لقضاء الغرض المطلوب.
إن الساحر ليس بالضرورة محتالا يمارس ضحكه على ذقون زبائنه المغفلين، فحسب دراسات لبعض مؤسسي انثربولوجيا المعتقدات، «حتى عندما لا يكون الساحر معتقدا في سحره، فإنه يظنه ممكنا: حيث يمتزج غالبا، قليل من التظاهر (بالاعتقاد) مع الصدق، كما يحدث دائما في الظواهر المرتبطة بالتنويم المغناطيسي لكن بصفة عامة، ليس ثمة كذب، فاعتقاد الجميع (في صدق السحر) يفرض نفسه عليه (على الساحر).
وبالإضافة إلى شرط توافر النية، هناك شرط السرية, فإذا كانت المعتقدات السحرية جماعية، فإن ممارستها تتم بشكل فردي، مادام السحر في حقيقته شخصنة لرغبة فردية يبتغي الممارس حصولها من خلال الطقس السحري, وممارسته في الخفاء هي شرط أساسي لصحته، وحسب ملاحظات الباحثين (أوبير) و(موس) فإنه «لكي يكون لسحر أثر، يجب ممارسته في سرية».
وهناك شرط آخر، يتمثل في وجوب اختيار الزمان المناسب لكل عملية سحرية, يقول البوني في «الأصول والضوابط المحكمة: «واعلم ان الكواكب السيارة السبعة (وهي في مصنفات السحر: زجل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد والقمر) لكل واحد منها وفق منسوب إليه (,,,) وفق تأثير يظهر منه بحسب تأثير الكوكب,,,» فالكواكب السيارة حسب السحرة، تؤثر في المخلوقات ويختلف نوع ودرجة تأثير كل كوكب حسب موقعه في الفضاء, ولذلك يترصد السحرة المحترفون حلول «منزلة» كوكب حسب جدول «المنازل» المعروف لديهم بدقة متناهية، من أجل القيام بالعمل السحري الذي يتوافق مع تأثير الكوكب, فإذا أخذنا القمر مثلا، نجد أن له منزلتين تناسب كل واحدة منهما نوعا من الممارسات السحرية: فالنصف الأول من الشهر القمري يناسب أعمال السحر خاصة بالخير (السحر الابيض)، بينما النصف الثاني منه مناسب لأعمال الشر (السحر الاسود),,, بل إن التأثير السحري يختلف حسب أوقات اليوم الواحد، فهناك سحر يصلح للنهار، آخر لليل, حيث ينسب البوني، في هذا الصدد، إلى «أستاذه الفاضل أرسطو طاليس» قوله إنه «وضع في يوم وليلة أربعة وعشرين عملا (سحريا) متضادة أجابت روحانيتها في الوقت,,,» وبالاضافة إلى ضرورة اختيار الوقت المناسب، يشترط في بعض الطقوس السحرية أن تتم في مكان معين: الحمام البلدي، أو البحر، أو المقبرة، أو غيرها,,, كما يعتبر احترام تراتبية الطقوس شرطا أساسيا، إذ ينجم عن عدم احترام عناصر الطقس السحري أو الإخلال بها، بطلان العمل السحري بأكمله، أو حدوث تأثير عكسي.
ونصل أخيرا إلى العناصر الأهم في العملية, أي تلك المواد التي تدخل في إعداد الوصفات السحرية, ويمكن تمييزها هنا بحسب أصولها إلى:
- مواد حيوانية: حشرات، جلود وقرون واطراف بعض الحيوانات وكذا دماؤها، إلخ.
- مواد معدنية: بخور، صفائح فضة، رصاص، حديد، نحاس.
- مواد نباتية: بخور، جذور ولحاف بعض الاشجار، أزهار بعض النباتات، إلخ.
- مستحضرات خاصة، ماء غسيل الميت، دم الإنسان (الحيض، دم المغدور) الثوب المستعمل بعد الجماع، شعر وأظافر الشخص المراد سحره، إلخ.
ومن أجل انتاج عدد غير محدد من الوصفات، والطقوس السحرية، التي تصلح لتحقيق كل ما يخطر ولا يخطر على البال من الأغراض، يتم التأليف بين هذه العناصر والشروط وفق قواعد معقدة وغامضة.
الطقس والوصفة
يعرف علم الاجتماع الطقس بأنه «مجموعة من الأفعال المتكررة التي تكون غالبا احتفالية ومن النوع الشفوي، الإيماني والوضعي بشحنة رمزية قوية، متأسسة على الاعتقاد في القوة المؤثرة للأشخاص أو للقوى المقدسة التي يحاول الرجل الذي يقوم بالطقس الاتصال بها، لكي يحصل على تأثير محدد.
تحليليا، ينبغي اعتبار الطقس:
1- كمتوالية زمنية من الأفعال.
2- كمجموعة من الأدوار التي تمسرح في نوع من المسرحية المؤسسة.
3- كنسق غائي للقيم.
4- كوسائل رمزية مرتبة للأهداف المراد تحقيقها.
5- كنسق للتواصل.
أما الوصفة، فتعني تفصيل المواد والظروف والطقوس التي تدخل في تحضير العملية السحرية، وكنموذج لنتأمل الوصفة التالية التي تستعمل لجلب شخص مطلوب، وهي للبوني:
من أخذ ثلاث ورقات وكتب على كل منها الأسماء السبعة للقمر، وقرأها عليها ثلاثا وستين مرة، وهو يبخر بكندر وجاوي وكسبرة، ثم علق الأولى في الهواء وحمل الثانية على رأسه وذوب الثالثة في ماء وعجن به حناء خضب بها يده، فما تذهب هذه الحناء من يده إلا ومطلوبه حاضر عنده.
إن هذه الوصفة تتضمن عددا من العناصر والطقوس التي يحدث تداخل تأثيراتها السحرية- حسب المعتقد- في تحقيق الغرض المطلوب, فهناك طقوس يدوية كتابة الأسماء على الورقات- تعليقها في الهواء وعلى الرأس- إعداد الحناء وتخصيب اليد بها)، وطقسا شفويا (قراءة الأسماء 63 مرة على الورقات)، تضاف جميعها إلى عناصر التأثير الاخرى (البخور- العدد ثلاثة- العدد 63) لتنتج- حسب زعم البوني الغرض, وهو هنا حضور الشخص المطلوب إلى طالبه.
كيف تمارس الوصفات والطقوس تأثيرها السحري على الواقع الملموس؟
- إن الاعتقاد في وجود الجن، وفي قدرته الخارقة على التأثير في عالم العناصر المحسوسة، يعتبر أساس المعتقدات السحرية في المغرب، ولذلك فإن الطقس السحري «يولد الجن» بتعبير دوتيه، وبمعنى أكثر وضوحا، تستهدف كل الممارسات السحرية التأثير في الواقع، عبر طقوسها وعناصر تأثيرها الأخرى، من خلال ممارسة تأثيرها على الجني الذي يوكل «إليه توزيع الأدوار القائم في عالم الخفاء امكانية التدخل لتحقيق رغبة الممارس الساحر, وتتأطر تلك الرغبة دائما داخل ثنائية إبطال مفعول الشر وجلب الخير: إبطال «العكس: وجلب عريس للفتاة التي تشكو العنوسة، أو شفاء المريض ومنحه الصحة، إلخ.
ولكل غرض «خادم» تتطلب استمالته القيام بطقوس معينة في شروط معينة, ولأجل ذلك تحفل مصنفات السحر الأساسية بأسماء وصفات «خدام» كل حرف من الأحرف، (وهم من الجن طبعا) وكل يوم من أيام الأسبوع، وكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة, وهكذا